الخواطر الأدبية
الخواطر ومفردها خاطرة، وهي من الفنون الأدبية التي تتميّز بكتابتها دون الالتزام بالوزن أو القافية، ويتحدّث بها الكاتب عن الخيال أو العواطف بأسلوب شيّق ممّا يجعلها قطعةً رائعةً، وسُميت بهذا الاسم لأنّها مجرد كلمات مرّت في الخاطر، وهي من الآداب الحديثة التي ظهرت في العصر الحالي، وتُكتب الخواطر عندما يتعرّض الشخص لموقف فتتحرّك أحاسيسه ولا يقدر على كبتها لذلك يكتبها ويشاركها مع الأشخاص، وتتميّز الخواطر بالعديد من الخصائص؛ إذ تغلب عليها المشاعر الصادقة، كما أنّها لا تحتوي على قافية، ويتنوع أسلوب كتابتها؛ فمنها السّاخر والجدي، وتلائم العصر الحالي، وتحتوي على صور بيانية تضفي عليها رونقًا، كما يمكن استخدام الرموز فيها واستخدام لغة بسيطة[١].
أفضل الخواطر
خاطرة عن الأمل
سندرج فيما يأتي خاطرة تتحدث عن الأمل[٢]:
لا أحد يريد أن تُسحبَ الحياة من تحت قدميه كما يُسـحب الحصـير، ولـمَّا يُحـدِث فـي نفسـه ودنيـاه شـيئًا يَسرُّ، لا أحد يريد أن تُصيبه الوفاة وهو كما يعلم من نفسه عاداته هي عاداته، وكسله عن المعالي باقٍ لم ينقضِ، وأخطاؤه ممتدة لم تنقطع، ونفسه العاقة منطلقة في عقوقها لم ترجع، ولذلك نُسلِّي أنفسنا بالأمل، هذه النسمة الباردة المغرية التي تُداعبنا وتَهمس لنا بقُرْب الخلاص، ولكننا بعد استنشاق هذا الأمل وسَريان مفعوله بشراييننا، سُرعان ما نطرح نَفَسًا كريهًا، سمِّه إن شئت (ثنائي أكسيد التشاؤم)، وهو كالدخان الأسود الخبيث يختلف في كل مرة شَكلًا ورائحة؛ إلاَّ أنّه -في الأصل- شيء واحد، وجوهره مُتمثل في سؤال مخيف بارد: (ماذا لو لم يكن ثمة أمل؟ ولا غد أفضل؟). ومع أن الأمل منهج رائع للحياة، ومغامرة قليلة التكاليف، وملهاة من أحسن الملهيات، ومولِّد للطاقة بلا مصاريف؛ فما هو إلا أن يرد على الخاطر ذلك الوارد الذي لا يُحبُّ أحد ذكره.. ذلك الدخان الأسود الكئيب، حتى يتزلزل الأمل ويُزحزح عن مكانه؛ فلا تعرف إن كنتَ في الحقيقة متفائلًا أم -عياذًا بالله- مُتشائمًا! وهذا الضيف الثقيل الذي يُحبطنا عن العمل، ويُبطئنا ويريد أن نقعد مع القاعدين، لا يأتي من فراغ، وإنما وراءه سنوات طوال كان فيها الواحد يُقارع نفسه، ويُصارعُها علَّه يُثنيها عن غيِّها وعصيانها وتصابيها، ويأمل ذلك ويتـمناه ويحاوله ويعمل من أجله ويكسل، ويقوم له ويقعد عن العمل.
فما انثنت هذه النفس بعدُ ولا ارعوت، وما كفَّت ولا اكتفت؛ فهل تراه يَضمن أنها تنصلح في مستقبل الأيام؟ هل يأمل؟ وماذا إن لم تفعل؟ بل ماذا إن زادت في غيِّها وصارت أسوأ وأرذل؟ ولكن علـى هـذا الإنسان -وإن لم يرَ بعدُ نتيجةً تسرُّ- ألَّا يترك حبلَ الأمل، بل عليه أن يزداد به تعلُّقًا ويعضَّ عليه بالنواجذ عضًا، لأن المؤمن يعرف أن الله لا يُضيّع أجر من أحسن عملًا، وأن من يعلمِ الله في قلبه خيرًا يُؤته خيرًا، وأنه مهما طال الظلام فالفجر آتٍ، وأن بعد العسر يُسرًا؛ وإلا يفعل فلن يقوى على مواصلة ما بقي من الحياة، وستكفُّ كل قواه عن العمل شيئًا فشيئًا؛ ثم يُشَلُّ تمامًا عن الحركة والتفكير، وقد يكفُّ حتى عن الشهيق والزفير، ثم لا يعود له وجود بين الموجودات.
فالأمل إذًا ضرورة خطيرة في حياة المرء؛ كالهواء أو أشدَّ منه خطورة. ودائمًا وأبدًا نجد الأمل جوابًا مُقنعًا لأعسر المشكلات وأشنع الورطات.. كيف ننجح؟ كيف نتغير؟ كيف نجد عملًا؟ مَن نتزوج؟ كيف نتوب؟ كيف نمضي في الحياة بعد الذي وقع وما يزال؟ بل حتى لكي لا نفقد الأمل في الأمل ذاته.. يلزمنا أمل! والأمل إنما يأتي مع العمل، كما أن الشهية تأتي مع الأكل وتقوى به وتزداد، فحيث كان العمل يكون الأمل، وتقول النفس: هل من مزيد؟ وحيث كان الفراغ يندحر الأمل ويهزل، وتظهر أشباح التشاؤم تكاد تسمع لها زفيرًا وهي تَمَيَّز من الغيظ!
وإنما نحن كالأطفال آخر الأمر، ترى عقولنا الأعمال اليسيرة في صورة إنجازات خطيرة، فتشتاق لمزيد منها، وكلما نالت المزيد انشرحت منا القلوب، وأُثلجت الصدور، وتغيَّرت كيمياء الدماء التي تجري في العروق، فنكاد نرى الأمل رأي العين ونصافحه، ونسأله عن غيابه فيم كان، وأين كان! هذا وقد قال ربُّنا وخالقنا في محكم تنزيله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١١١]. فلنتفاءل -أخي المسلم- ولنزد في الأمل مع العمل، ولا تُعجزنا هذه الحياة ولا تهزمنا و{لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
خاطرة في الربيع الأزرق
سندرج آتيًا خاطرةً في الربيع الأزرق لمصطفى الرافعي[٣]:
ما أجمل الأرض على حاشية الأزرقين: البحر والسماء؛ يكاد الجالس هنا يظن نفسه مرسومًا في صورة إلهية. نَظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعينَيْ طفل يتخيل أن البحر قد مُلِء بالأمس، وأن السماء كانت إناءً له، فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء. إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبةً من طفولتها، ومرح الطفولة، ولعبها، وهذيانها؛ تبدو لك السماء على البحر أعظم مما هي، كما لو كنتَ تنظر إليها من سماء أخرى لا من الأرض. إذا أنا سافرت فجئت إلى البحر، أو نزلت بالصحراء، أو حللت بالجبل؛ شعرت أول وهلة من دهشة السرور بما كنت أشعر بمثله لو أن الجبل أو الصحراء أو البحر قد سافرتْ هي وجاءت إليّ. في جمال النفس يكون كل شيء جميلًا؛ إذ تلقي النفس عليه من ألوانها، فتنقلب الدار الصغيرة قصرًا لأنها في سعة النفس لا في مساحتها هي، وتعرف لنور النهار عذوبة كعذوبة الماء على الظمأ، ويظهر الليل كأنه معرض جواهر أقيم للحور العين في السماوات، ويبدو الفجر بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنة سابحة في الهواء. في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة؛ وكأن الله أمر العالم ألا يعبس للقلب المبتسم. أيام المصيف هي الأيام التي ينطلق فيها الإنسان الطبيعي المحبوس في الإنسان؛ فيرتد إلى دهره الأول، دهر الغابات والبحار والجبال. إن لم تكن أيام المصيف بمثل هذا المعنى، لم يكن فيها معنى. ليست اللذة في الراحة ولا الفراغ، ولكنها في التعب والكدح والمشقة حين تتحول أيامًا إلى راحة وفراغ. لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح. الحياة في المصيف تُثبِت للإنسان أنها إنما تكون حيث لا يُحفَل بها كثيرًا. يشعر المرء في المدن أنه بين آثار الإنسان وأعماله؛ فهو في روح العناء والكدح والنزاع؛ أما في الطبيعة فيحس أنه بين الجمال والعجائب الإلهية، فهو هنا في روح اللذة والسرور والجلال. إذا كنتَ في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خاليًا وفرِّغه للنبت والشجر، والحجر والمَدَر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار وظلام الليل، حينئذ يفتح العالم بابه ويقول: ادخل. لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال؛ عرفتُ ذلك حينما أبصرت قطرةً من الماء تلمع في غصن؛ فخيل إليّ أن لها عظمة البحر لو صَغُر فعُلّق على ورقة. في لحظة من لحظات الجسد الروحانية حين يفور شِعر الجمال في الدم، أطلتُ النظر إلى وردة في غصنها زاهيةً عطرةً، متأنقةً، متأنثةً؛ فكدت أقول لها: أنت أيتها المرأة، أنت يا فلانة. أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؛ فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟ الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف؛ والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البَلُّور الساطع؛ ذاك يحتوي الماء وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين. وا أسفاه، هذه هي الحقيقة: إن دقة الفهم للحياة تُفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب، وإن العقل الصغير في فهمه للحب والحياة، هو العقل الكامل في التذاذه بهما، وا أسفاه، هذه هي الحقيقة! في هذه الأيام الطبيعية التي يجعلها المصيف أيام سرور ونسيان، يشعر كل إنسان أنه يستطيع أن يقول للدنيا كلمة هزل ودعابة. من لم يُرزق الفكر العاشق لم ير أشياء الطبيعة إلا في أسمائها وشياتها، دون حقائقها ومعانيها، كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلهن سواء، فإذا عشق رأى فيهن نساءً غير من عرف، وأصبحن عنده أدلة على صفات الجمال الذي في قلبه. تقوم دنيا الرزق بما تحتاجه الحياة، أما دنيا المصيف فقائمة بما تلذه الحياة، وهذا هو الذي يغير الطبيعة ويجعل الجو نفسه هناك جو مائدة ظرفاء وظريفات. تعمل أيام المصيف بعد انقضائها عملًا كبيرًا، هو إدخال بعض الشعر في حقائق الحياة، هذه السماء فوقنا في كل مكان، غير أن العجيب أن أكثر الناس يرحلون إلى المصايف ليروا أشياءً؛ منها السماء. إذا استقبلتَ العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي. في الساعة التاسعة أذهب إلى عملي، وفي العاشرة أعمل كَيْت، وفي الحادية عشرة أعمل كيت وكيت؛ وهنا في المصيف تفقد التاسعة وأخواتها معانيها الزمنية التي كانت تضعها الأيام فيها، وتستبدل منها المعاني التي تضعها فيها النفس الحرة. هذه هي الطريقة التي تُصنع بها السعادة أحيانًا، وهي طريقة لا يُقدر عليها أحد في الدنيا كصغار الأطفال، إذا تلاقى الناس في مكان على حالة متشابهة من السرور وتوهمه والفكرة فيه، وكان هذا المكان مُعدًّا بطبيعته الجميلة لنسيان الحياة ومكارهها، فتلك هي الرواية وممثلوها ومسرحها، أما الموضوع فالسخرية من إنسان المدينة ومدنية الإنسان. ما أصدق ما قالوه: إن المرئي في الرائي. مرضت مدةً في المصيف؛ فانقلبت الطبيعة العروس التي كانت تتزين كل يوم إلى طبيعة عجوز تذهب كل يوم إلى الطبيب.
المراجع
- ↑ "كتابة الخاطرة"، okktob، اطّلع عليه بتاريخ 2-2-2020. بتصرّف.
- ↑ "خواطر عن الأمل"، islamway، اطّلع عليه بتاريخ 4-2-2020. بتصرّف.
- ↑ "وحي القلم ج1 - في الربيع الأزرق خواطر مرسلة"، adab، اطّلع عليه بتاريخ 4-2-2020. بتصرّف.