محتويات
منزلة حديث من نفّس عن مؤمن كربة
لهذا الحديث منزلةٌ عظيمة؛ لما فيه من تحفيز للمؤمنين على تقديم العون فيما بينهم، وتفريج الكربات، وقد بشّر الله المسلم الذي يُساعد أخاه المسلم بثواب عظيم يوم القيامة؛ وهو مدّه بالعون حين يحتاجه، وتفريج كرباته يوم القيامة، كما حثّ الحديث على ضرورة طلب العلم؛ فهو الطريق الذي يقود صاحبه للجنة، كما دعا المؤمن للسّتر على أخيه المسلم حتى يستره الله في الدنيا والآخرة، وأكّد الحديث على أهمية مجالسة أهل العلم والقرآن، وذمّ الحديث من يعتمدون على أنسابهم ويتقاعسون عن الأعمال؛ إذ يروي أبو هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ، وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ، وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ. غيرَ أنَّ حَدِيثَ أَبِي أُسَامَةَ ليسَ فيه ذِكْرُ التَّيْسِيرِ علَى المُعْسِرِ)[صحيح مسلم |خلاصة حكم المحدث: صحيح]، ويقول ابن دقيق العيد -رحمه الله-: "هذا حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، فيه فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما يتيسر؛ من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك"[١].
آثار حديث من نفّس عن مؤمن كربة
إنّ من يتأمل عظمة ما ورد في هذا الحديث من إرشادات اجتماعية، وإنسانيّة، سيفهم بالتأكيد نتائج تطبيقه العظيمة على المجتمع والناس، ومن تلك الآثار ما يلي[٢]:
- مراعاة المشقات والصعوبات في حياة الإنسان: إذ يحتاج الإنسان إلى من يفرّج كربه؛ لذا حث الرسول الكريم على التآخي ومدّ يد العون للآخرين، والسعي لإزالة كربهم أو تخفيفه؛ لما لهذا من أثر في قلب المكروب، ويُجازى عليه بأن يفرّج الله كربة أعظم عنه، وهي كربة الوقوف والحساب، وكربة السؤال والعقاب يوم القيامة.
- التيسير على المُعسر: فقد أُمر صاحب الحق بالتجاوز عن المدين المعسر، وانتظار سداد حقوقه إلى حين تيسر أحوال المدين؛ إذ يقول الله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] والأفضل أن يُسقط صاحب الحق شيئًا من حقه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (كان رجلٌ يدايِنُ الناسَ، فكان يقولُ لفتَاهُ: إذا أتيتَ مُعْسِرًا فتجاوزْ عنه، لعلَّ اللهَ أنْ يتجاوَزَ عنَّا، فلَقِيَ اللهَ، فتجاوَزَ عنْهُ) [صحيح الجامع |خلاصة حكم المحدث: صحيح].
- ستر عيوب المسلمين: وعدم تتبع عوراتهم وأخطائهم، وهذا قانون واضح لتعميم خلق من الأخلاق الكريمة التي دعت لها الشريعة الإسلاميّة؛ فالله عز وجلّ يعلم أن عبده غير معصوم من الخطأ، وقد يرتكب بعض الأخطاء؛ فإذا رأى المسلم من أخيه زلّة فعليه أن يستره ولا يفضحه، وأن يقوم بنصحه وتذكيره، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن سترَ عورةَ أخيهِ المسلمِ سترَ اللَّهُ عورتَهُ يومَ القيامةِ) [صحيح ابن ماجه | خلاصة حكم المحدث: صحيح].
- الابتعاد عن تتبع الزلات: وهذا يعود على المجتمع بالتآلف والمنفعة؛ فتتبع الزلات أمر ينافي خلق المسلم وجاء فيه وعيد شديد، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبرَ فَنادى بصَوتٍ رفيعٍ، فقالَ: (يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قَلبِهِ، لاَ تؤذوا المسلِمينَ ولاَ تعيِّروهم ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّهُ مَن تَتبَّع عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن تتبَّع اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِهِ) [صحيح الترمذي| خلاصة حكم المحدث: حسن].
- إعلاء منزلة العلم: فله مكانة عظيمة، وجاء الحديث ليؤكد على فضله وعلو شأنه، فهو طريق صاحبه إلى الجنة، والاهتمام بالعلم يعود على المجتمع بالتقدم للأمام، فالعلماء هم ورثة الأنبياء والمرسلين، وقد شرّفهم الله تعالى بالمكانة عالية، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الملائكةَ لَتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ، وإنَّ العالمَ لَيستغفرُ له مَن في السماواتِ ومن في الأرضِ، حتى الحيتانُ في الماءِ، وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ) [صحيح الترغيب| خلاصة حكم المحدث: حسن لغيره]، والأولى في التعلم هو تعلم القرآن الكريم وتعليمه.
- بشارة من اجتمعوا لتدارس كتاب الله: فقد بشرهم الله بأمور أربعة: أن تتنزّل عليهم السكينة، وتعمهم الرحمة الإلهية، وتحيط بهم الملائكة الكرام، والرابعة -وهي الأعظم والأجمل-: أن يذكرهم الله تعالى في ملأ خير من ملئهم ، ويثني عليهم بين ملائكته.
- عدم الاعتماد على النسب بل على الاجتهاد والعمل: وهذا يجعل من الإنسان عنصرًا فاعلًا في مجتمعه وحياته؛ فلا ينبغي له أن يعتمد على نسبه، فميزان التفاضل عند الله تعالى هو العمل الصالح، فيقول الله عزوجل في كتابه: { فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101].
تفسير حديث من نفّس عن مؤمن كربة
لفهم ما يرشد إليه الحديث الشريف يجب فهم شرح عبارات الحديث وبالتفصيل كما يلي[١]:
من نفَّس: تعني فرَّج وأزال وكشف، وعن مؤمنٍ كربةً أي: شدة ومصيبة، ومن كُرَب الدنيا أي: بعض كربها، ونفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة: وهنا تعني العبارة أن الله سيكافئ المؤمن من جنس عمله بتفريج كربته، فيقول النووي -رحمه الله- عن هذا الحديث: "فيه دليل على استحباب القرض، وعلى استحباب خلاص الأسير من أيدي الكفار بمال يعطيه، وعلى تخليص المسلم من أيدي الظَلَمة، وخلاصِه من السجن"، ومن يسَّر على معسرٍ أي: سهَّل عليه وفكّ عسرته، ويسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة وهنا أيضًا سيكافئ الله المؤمن من جنس عمله، تيسيرًا بتيسير.
ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة: أي: من ستر مسلمًا قد رأى منه ما لا ينبغي إظهاره من الزلات أو العيوب أو الأخطاء؛ فله أجر الستر، وسيجزيه الله من جنس عمله كما سبق بالستر في الدنيا والآخرة، والستر لا يعني عدم المحاولة في التغيير، بل على المسلم أن يحاول تغيير خطأ أخيه المسلم ويستر عليه أيضًا، وهذا يستحب فيمن يخطئ ولا يتمادى في فساده وطغيانه، أمّا من تمادى وأفسد فلا يُحبّ الستر عليه، بل يجبُ أن يشتكيه لوليّ أمره؛ لأنّ الستر على الفاسد سيغريه على الاستمرار في الفساد، ويقوّي شوكته على أذية العباد، ويحفّز غيره من أهل الشر على اتباعه وتقليده.
ومفهوم الستر يعني تجنب تتبع عورات المسلمين؛ فهذا يدلّ على النفاق، فلو كان إيمان الإنسان قويًّا لمنعه من التفتيش عن عورات الآخرين، وقد روي عن بعض السلف أنه قال: "أدركتُ قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركتُ قومًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوبِ الناس، فنُسِيَت عيوبهم"، وعبارة: والله في عون العبد تعني أن يكون الله معينًا للعبد إعانة كاملة، أما ما كان العبد في عون أخيه تعني إعانة العبد لأخيه بالقلب والبدن والمال.
ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة تعني أن من سار في طريق لتحصيل علمٍ قاصدًا به وجه الله تعالى، أعطاه الله ثوابًا عظيمًا، وهو الوصول إلى الجنّة، ويقول القرطبي: "الهدف هو حضّ وترغيب في الرحلة لطلب العلم والاجتهاد"، ومعنى يلتمس أي: يطلب، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (التَمِسْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ) [صحيح البخاري | خلاصة حكم المحدث: صحيح].
وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشِيتهم الرحمة، وحفَّتْهم الملائكة، وذكَرهم الله فيمن عنده: قال ابن رجب -رحمه الله-: هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته، وهذا إن حمل على تعلُّم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه، وعن عثمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ ) [صحيح البخاري| خلاصة حكم المحدث: صحيح]، وهذا يشمل الاجتماع في المساجد لدراسة القرآن، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانًا يأمر أحد الصحابة بقراءة القرآنَ ليستمعَ لقراءته، فقد أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن ، وقال له: (إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمعهُ مِن غيرِي) [صحيح مسلم| خلاصة حكم المحدث: صحيح].
وفي هذا الحديث يبشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- بثواب الذين يجلسون في بيت الله يتدارسون كتابه، فيقول: إلا نزلت عليهم السكينة، أي: الطمأنينة، وغشِيتهم الرحمة، أي: غطتهم وشملتهم، وحفَّتهم الملائكة أي: أحاطت بهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده أي: أثنى الله عليهم في المقرَّبين عنده، وهذا شرف ما بعده شرف أن يذكر اللهُ العبدَ في الملأ الأعلى، أما عبارة ومَن بطَّأ به عملُه، لم يُسرِعْ به نسَبُه أي أن قلة العمل لن تجعل الإنسان في مكانة متقدمة، ولن يستطيع تحصيل هذه المكانة بحسبه ونسبه.
فوائد حديث من نفّس عن مؤمن كربة
للحديث فوائد كثيرة وعظيمة على المسلم التنبّه لها، ومن تلك الفوائد ما يلي[١][٣][٤]:
- الحثّ على تفريج كربات المسلمين، والتيسير عليهم.
- التذكير بكُربات يوم القيامة، والعمل لتلك السّاعة.
- الحثّ على ستر المسلم إن لم يكن مُفسدًا ومتماديًا.
- دعوة المسلم إلى الاهتمام بكتاب الله عزّ وجلّ.
- الإشادة بفضل مجالس الذكر وحلقات العلم والمُدارسة.
- إخبار الحديث أن الجزاء من جنس العمل، ليحسن كلٌّ في عمله.
- الحثّ على طلب العلم لما فيه من الخير الكبير الذي يقود صاحبه إلى الجنّة.
- إخبار الحديث بأن من ذكَرَ اللهَ ذكرَهُ اللهُ في الملأ الأعلى.
- التأكيد على أن نسب الإنسان لا يقدّم ولا يؤخر في حسابه يوم القيامة، إنما عمله من يتولّى ذلك.
- إخبار الحديث بأن الأخوّة الحقيقيّة هي أخوّة الدين.
- مشروعية إقراض المسلم للمسلم لفك أزماته، ويكون بالمال وغيره، وهو من باب التعاون على البر والتقوى.
المراجع
- ^ أ ب ت عبدالعال بن سعد الرشيدي (13-8-2016)، "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، alukah، اطّلع عليه بتاريخ 20-12-2019. بتصرّف.
- ↑ الإمام بن باز، "(باب قضاء حوائج المسلمين)"، binbaz، اطّلع عليه بتاريخ 20-12-2019. بتصرّف.
- ↑ الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح (7-12-2013)، "حديث: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "، alukah، اطّلع عليه بتاريخ 20-12-2019. بتصرّف.
- ↑ فريق إسلام أون لاين - سؤال وجواب ، "القرض الذي جر نفعاً"، fatwa.islamonline، اطّلع عليه بتاريخ 20-12-2019. بتصرّف.